الصراع أو التّدافع من السمات الطبيعية للحياة الإنسانية، فكل مسار فكري مهما كان يقابله مسار آخر، فإما أن يكون التدافع صفرياً أي أن كل طرف يهدف لمحو الآخر، أو يكون تنافسياً بحيث يعمل كل طرف على تجاوز الآخر وتحقيق مكسب أكبر. ولعلّ ظهور الأديان في بيئات غارقة في الضلالات والكراهية والظلم والاستقواء على الضعفاء من الأمثلة الموضحة للتدافع، فبينما يدعو الرّسل لنبذ الخبائث، وتجنب الفواحش، ونشر العدل والمساواة بالتي هي أحسن، يشعر أرباب المجتمعات الظالمة بالتهديد، فتخلق المصالح المتضاربة جواً من الصراع، فسلاح الأنبياء والرسل هي الدّعوة التي تصادف هوى في قلوب المستضعفين والثوريين-إن صحّ التعبير- ممن سئموا الاستغلال والاستبداد، ولديهم القاعدة الشعبية المناصرة لهذه المبادئ وفي المقابل، يلجأ الطرف الآخر (السلطة الظالمة الممثلة بالسادة والكبراء) إلى القوة والإرهاب، فيعذبون من كانوا يسمونهم (أراذل القوم)، وقد يجوعونهم ويحاصرونهم، وقد يستخدمون الدّعاية ضدّهم، والقرآن يذكر أنّ الرسل جميعاً اتهموا بالشعوذة والسحر والكذب والجنون. إذاً؛ فالصراع بين الرسالات السماوية والمجتمعات الجاهلية صراع صفري من قبل السادة والكبراء، بينما يقف الرسل موقف مغايراً، وهو الاستمرار في الدّعوة، وحماية المستضعفين ما وجدوا لذلك سبيلاً.
ومن مظاهر التّدافع الطبيعي ما يكون بين الفصائل السياسية في البلاد الواحدة، إذ يحرص كل فصيل على الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من المكاسب، وتقليل فرص الآخر، وربما استخدما الدّعايات ضدّ بعضهما البعض، واستغلال أخطاء الآخر وتضخيمها، أو قد يلجأ كل فصيل لتقديم وعود لامعة بخدمات أفضل وأقل تكلفة، ما يغري الناخبين على اختيار صاحب الوعود الأكثر بريقاً. ويمكن اعتبار هذا صراعاً تنافسياً، لا يهدف كلّ طرف لإلغاء الطرف الآخر.
وقد تتصاعد وتيرة الصراع فتندلع حرب شعواء، كما حدث في الصومال مثلاً، فبعد أن تمادى النّظام العسكري في الطغيان، ظهرت قوة عديدة تناهضه، كانت الأولى حين قرر سياد بري تصحيح آيات الميراث كما قال، فتصادم مع عقيدة المجتمع وهويته وأهان مقدساته، وما أن ارتفعت الأصوات المخالفة له، أراد تأديب الشعب، فأعدم عشرة من الشيوخ في رابعة النّهار. ثم كانت الدفعة الثانية من الصراع حين تمرّد عليه ضباط من الجيش إثر الهزيمة النكراء لمعركة غير مدروسة، فما كان من سياد بري إلا مطاردتهم ومعاقبة قبائلهم وسكان محافظاتهم، وبعد أعوام، تمردت فصائل في الشمال الغربي، ليكون دك المدن وقصفها والإعدامات الميدانية جزاء رفع رأسهم وقولهم كلمة لا… حتى انتهى النّظام على يد جبهات قبلية في مستهل التسعينات.
والآن وبعد مرور عقدين ونصف العقد على انهيار النّظام، ما يزال الصراع الصفري قائماً، فمحاولات عقد المصالحة لم تنجح في تحريك الوضع من مكانه، بل كانت المشكلات تتخذ ألوانا ًمغايرة، وتأخذ الصراع لمنحى جديد، ويستمر الدوران في حلقة مفرغة.
وفي ظلّ هذا الصراع، لم يعد المواطن الصومالي قادراً على الحياة بشكل طبيعي، فهو إن كان في الدّاخل رهن النزوح وتهديد القتل العشوائي أو الاغتيال المنظم، وإن كان في الشتات، فالتحديات التي يواجهها أكبر من طاقته على التعايش مع المجتمعات المضيفة، أو لديه التزامات مادية ترهق كاهله وتحرم أولاده من التمتع بحياة كريمة في بلدان إقامتهم، والجميع يترقب تسوية لهذا الصراع القاسي. ولكن كيف يمكن ذلك؟
إن الإمساك بطرف خيط المسألة الصومالية هو بداية الحل. ولكن ماذا لو كان (طرف الخيط) موضوعاً حساساً ونوعا ًمن (تابو) سياسي واجتماعي، يرهب أي عاقل الخوض فيه؟ كم منّا يستطيع القول جهاراً أن المشكلة في رغبة الجميع بالمشاركة في صنع القرار، وهذا أمر عادل، ولا بدّ من وضع صيغة ثابتة على المدى البعيد تمنح كافة الفصائل حقوقاً واضحة متساوية؟
كم منا يخشى من تهمة القبلية والعنصرية حين يقول: كثير ممن يحملون السلاح يحملونه لفرض رغباتهم، ولو امتلكت الحكومات الجرأة للتحاور معهم والتوصل لاتفاقية تحفظ لهم كبرياءهم (ego) بما لا يتعارض مع المصلحة العليا للبلاد لأخذت المسألة طريقها إلى الحل؟
إن كلّ ما يقال عن التّنازل والتسامح والتعايش لن يكون له معنى بدون القيام بخطوات عملية تدلل على تلك الدعوات العاطفية. وما دامت الحكومات تسعى لتجريد الفصائل التي لا تتوافق معها أو تلك التي تنافسها من كلّ امتيازاتها فإن أي مبادرة لإعادة التعمير وبناء الدولة ستكون مجرد سراب لا غير.
وضع نهاية لدورة الصراع العنيف في الصومال تحدّ كبير، ومفتاحه القبول ببعضنا البعض، والإيمان بأن أرض الوطن يسعنا جميعاً.. وأن خيراته تكفينا إن تقاسمناها وألغينا ثقافة السلب والنهب تدريجياً, وهذا بحاجة فقط لقليل من الجرأة.. فقط قليل من الجرأة على قول ذلك بصوت أعلى وأكثر حزماً.